تعهدات بلا تنفيذ.. هل خذلت الدول الكبرى كوكب الأرض في سباق الطاقة المتجددة؟
تعهدات بلا تنفيذ.. هل خذلت الدول الكبرى كوكب الأرض في سباق الطاقة المتجددة؟
في قاعات مؤتمرات الأمم المتحدة، على منصات الخطب الرنانة، تتجدد التعهدات عامًا بعد عام، لتتحول إلى وعود طموحة ترسم مستقبلًا أخضر أكثر استدامة، ولكن، بعيدًا عن الأضواء والبيانات الرسمية، يظل الواقع على الأرض أكثر قتامة، فما كان يُعدّ أكبر إجراء منفرد هذا العقد للبقاء على المسار الصحيح نحو هدف الحد من الانحباس الحراري العالمي إلى 1.5 درجة مئوية، وهو مضاعفة القدرة الإنتاجية العالمية من مصادر الطاقة المتجددة ثلاث مرات بحلول عام 2030، يواجه اليوم أزمة فشل كارثية، إنها أزمة تكشف عن فجوة عميقة بين الأقوال والأفعال، وتضع مصير الكوكب على المحك.
وقبل عامين تقريبًا، تعهدت أكثر من 130 دولة بتسريع وتيرة التحول نحو الطاقة النظيفة، كان هذا التعهد بمثابة لحظة أمل تاريخية، حيث اتفق المجتمع الدولي على تحقيق هدف جريء: الوصول إلى 11 ألف جيجاوات من مصادر الطاقة المتجددة بحلول عام 2030، لكن أحدث التقارير والتحليلات تشير إلى أن هذا الهدف، الذي كان يُفترض أن يكون بوصلة العمل العالمي، أصبح اليوم مجرد حلم بعيد المنال.
22 دولة على المسار الصحيح
تقرير صادر عن مؤسسة إمبر (Ember) لأبحاث المناخ، وهو أحد التقارير التي تُلقي الضوء على هذا الفشل، كشف أن 22 دولة فقط، معظمها من الاتحاد الأوروبي، قامت بزيادة طموحاتها في مجال الطاقة المتجددة هذا يعني أن الغالبية العظمى من الدول، بما فيها القوى الاقتصادية الكبرى، لم تحرك ساكنًا. النتيجة كانت صادمة: إجمالي الأهداف الوطنية للطاقة المتجددة العالمية ارتفع بنسبة 2% فقط على ما كان عليه قبل عامين.
هذه النسبة الضئيلة تُترجم إلى عجز هائل، بينما قد تكون الأهداف الحالية كافية لمضاعفة القدرة الإنتاجية العالمية من الطاقة المتجددة لتصل إلى 7.4 تيراواط بحلول عام 2030، فإنها ستكون بعيدة كل البعد عن تحقيق الهدف الثلاثي المطلوب البالغ 11 تيراواط، هذا الفشل ليس مجرد رقم على ورقة؛ إنه يعني استمرار الاعتماد الكثيف على الوقود الأحفوري، وتفاقم أزمة التغير المناخي، وزيادة معاناة المجتمعات الأكثر هشاشة حول العالم.
إن هذه الأرقام ليست مجرد إحصاءات جافة، بل هي انعكاس لواقع إنساني مرير. كل طن من الكربون ينبعث في الغلاف الجوي يعني ارتفاع درجات الحرارة، وذوبانًا للجليد، وزيادة في الظواهر الجوية المتطرفة مثل الفيضانات والجفاف وموجات الحر القاتلة، إن الفشل في التحول للطاقة المتجددة يهدد الأمن الغذائي والمائي، ويزيد من حدة الصراعات على الموارد الطبيعية، ويدفع الملايين نحو الهجرة والنزوح.
دول كبرى على الهامش
يُظهر تقرير إمبر، أن الدول التي تُعدّ المحرك الرئيسي للاقتصاد العالمي ومصدرًا رئيسيًا للانبعاثات الكربونية، هي الأكثر تخاذلًا في هذا الملف، لافتا إلى أن الصين، والولايات المتحدة، وروسيا، التي تُسهم مجتمعة بنحو نصف الانبعاثات الكربونية السنوية في العالم، فشلت في تقديم أهداف طموحة وواضحة.
وأوضح أن الوضع في هذه الدول الثلاث يكشف عن تحديات سياسية واقتصادية عميقة ففي الصين يُعلّق مصير الاتفاقية العالمية للطاقة المتجددة على خطة بكين الخمسية الخامسة عشرة للطاقة التي ستصدر لاحقًا هذا العام، ورغم الجهود الصينية الهائلة في إنتاج الطاقة المتجددة، فإن عدم وجود أهداف رسمية محددة يترك الباب مفتوحًا للشكوك حول مدى التزامها الفعلي.
أما الولايات المتحدة وروسيا فهما لا تمتلكان أهدافًا محددة للطاقة المتجددة لعام 2030، ووفقًا لتقرير إمبر، لا يُتوقع أن يضع قادتهما أي أهداف في المدى القريب.. هذا التخاذل من أكبر قوتين اقتصاديتين وسياسيتين يرسل رسالة سلبية لبقية العالم، ويُضعف من مصداقية أي تعهدات مستقبلية.
دول تتقدم رغم التحديات
على الجانب الآخر، تبرز بعض الدول كمنارات للأمل، تُظهر التزامًا حقيقيًا بالتحول الأخضر، فيتنام تُعدّ النموذج الأبرز، حيث تعهدت هذا العام بزيادة قدرتها الإنتاجية بمقدار 86 غيغاواط بحلول نهاية العقد، وهذا الطموح يضعها في صدارة الدول التي زادت من أهدافها بشكل جذري، كما أظهرت دول مثل أستراليا والبرازيل التزامًا جادًا، مع وعود بزيادة إنتاجها المحلي من الطاقة المتجددة بمقدار 18 و15 غيغاواط على التوالي.
حتى في الدول التي لم تُحدث تغييرًا جذريًا في أهدافها، يظهر بعض الأمل، ففي الهند، على الرغم من أن أهداف الطاقة النظيفة لم تتغير، إلا أن طموح البلاد لبناء 500 غيغاواط من مصادر الطاقة المتجددة بحلول عام 2030 يتماشى بالفعل مع الهدف العالمي لمضاعفة القدرة ثلاث مرات، وهذا يدل على أن بعض الدول كانت بالفعل على المسار الصحيح حتى قبل التعهد الرسمي.
ومن منظور حقوقي وإنساني، يُمثل هذا الفشل خيانة للعدالة المناخية. المنظمات الدولية والمحلية، مثل "هيومن رايتس ووتش" و"منظمة العفو الدولية"، لطالما حذرت من أن أزمة المناخ ليست مجرد قضية بيئية، بل هي أزمة حقوق إنسان.
والمجتمعات الفقيرة والدول النامية، التي لا تُسهم بشكل كبير في الانبعاثات الكربونية، هي الأكثر تضررًا من آثار التغير المناخي، وإن استمرار الدول الغنية والصناعية في الاعتماد على الوقود الأحفوري هو استمرار في فرض تبعات نموها الاقتصادي على الدول الفقيرة، التي تفتقر إلى الموارد اللازمة للتكيف مع هذه الآثار.
وتؤكد المنظمات الحقوقية أن الفشل في الوفاء بالتعهدات المناخية يُترجم إلى زيادة أعداد اللاجئين المناخيين فمع تصاعد الكوارث الطبيعية، يضطر الملايين لترك منازلهم وأراضيهم بحثًا عن الأمان، إضافة إلى تفاقم الأوضاع الصحية فتلوث الهواء الناجم عن حرق الوقود الأحفوري يتسبب في أمراض الجهاز التنفسي والقلب، ويؤثر على جودة الحياة، بجانب التهديد بالفقر المدقع حيث يدفع فقدان المحاصيل الزراعية وندرة المياه بالمجتمعات إلى دائرة الفقر التي يصعب الخروج منها.